من درع الحقوق لسيف الإقصاء.. مشروع الجنسية في ألمانيا يُعيد رسم حدود الانتماء
من درع الحقوق لسيف الإقصاء.. مشروع الجنسية في ألمانيا يُعيد رسم حدود الانتماء
أثارت مقترحات الحزبين السياسيين الألمانيين، "الاتحاد الديمقراطي المسيحي" (CDU) و"الاتحاد الاجتماعي المسيحي" (CSU)، لتعديل قانون الجنسية موجة من الجدل على المستويين القانوني والسياسي.
وتهدف هذه المقترحات إلى منح الدولة حق سحب الجنسية من مزدوجي الجنسية الذين يُصنَّفون كـ"متطرفين" "مؤيدين للإرهاب" أو "معادين للسامية".
وأثارت هذه المبادرة، التي تأتي تحت عباءة "الأمن القومي"، مخاوف حول استخدامها كأداة تهديد لحقوق الأفراد وتآكل مبدأ المواطنة في ألمانيا.
وأبرز ما يثير القلق في هذا المقترح هو غموض المصطلحات المستخدمة مثل "التطرف" و"معاداة السامية"، حيث تفتقر هذه العبارات إلى تعريف قانوني دقيق، ما يفتح الباب لتأويلات سياسية قد تستهدف الأقليات وتؤثر بشكل غير عادل على حقوق الأفراد، فعلى سبيل المثال، لوحظ في ألمانيا أن قضايا "معاداة السامية" في بعض الأحيان كانت تشمل انتقادات للسياسات الإسرائيلية، ما يطرح تساؤلات حول دقة استخدام هذه التهم بشكل غير محايد.
أما مصطلح "التطرف" فيستند إلى تفسيرات متباينة بين الأجهزة الأمنية، ويشمل أنشطة متنوعة تتراوح بين المعارضين السياسيين والنشطاء في مجالات مثل البيئة أو حقوق الإنسان، هذا الاستخدام الواسع يمكن أن يؤدي إلى سحب الجنسية عن أفراد لم يكونوا متورطين في أعمال عنف أو تهديدات حقيقية.
التأثير على ثقة المواطنين
يعد سحب الجنسية قضية حساسة للغاية في أي دولة ديمقراطية، فالمواطنة هي الرابط الأساسي بين الفرد والدولة، والتهديد بفقدان الجنسية يثير شعوراً بالخوف والاغتراب بين المواطنين، وقد تعزز هذه السياسات من مشاعر الانقسام داخل المجتمع، ما يجعل الأقليات يشعرون بأنهم ليسوا جزءاً من النسيج الاجتماعي والوطني.
وفي استطلاع أُجري في 2023، أشار 68% من الأتراك في ألمانيا إلى أنهم يشعرون بأنهم "مواطنون من الدرجة الثانية". هذا النوع من التشريعات قد يعمق هذه الفجوة.
ألمانيا ليست الوحيدة التي تواجه هذه القضايا، فالدول الأوروبية الأخرى مثل بريطانيا وفرنسا قد شهدت تطبيق سياسات مشابهة في الماضي، ففي بريطانيا، فَقَدَ 217 شخصًا جنسيتهم بين عامي 2010 و2023، وأغلبهم كانوا من أصول مسلمة، أما فرنسا فألغت الجنسية عن 40 شخصًا من أصول مغاربية، وهو ما اعتبره كثيرون استهدافًا للأقليات، وأسفرت هذه السياسات عن تعزيز مشاعر الغربة والعزلة بين الفئات المستهدفة، مما زاد من الانقسامات المجتمعية.
التفريط في حقوق المواطنين
الحديث عن "سيادة الدولة" في سياق سحب الجنسية يثير سؤالًا مهمًا.. إلى أي مدى يمكن للدولة أن تفرط في حقوق المواطنين باسم حماية الأمن القومي؟ فالدستور الألماني، الذي ينص على "كرامة الإنسان لا تُمس"، يضع حماية حقوق الأفراد فوق أي مبررات تتعلق بالسيادة، وإذا تحولت السيادة إلى وسيلة لتجاوز المبادئ الدستورية، فإننا نكون أمام تراجع كبير في حقوق الإنسان وفي قيم الديمقراطية.
التعديلات المقترحة على قانون الجنسية في ألمانيا تمثل خطوة خطيرة قد تؤدي إلى تقويض مفهوم المواطنة في البلاد، إذا تمت الموافقة على هذه السياسات، فقد تفتح بابًا لتأويلات غير عادلة وتثير انقسامات خطيرة داخل المجتمع.
وفي ضوء الدروس المستفادة من تجارب الدول الأخرى، يجب على ألمانيا أن تأخذ في اعتبارها توازنًا دقيقًا بين حماية الأمن القومي والحفاظ على حقوق الأفراد الأساسية.
برلين تحت مجهر العدالة الدولية
أعرب أيمن عقيل، نائب رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للاتحاد الإفريقي (الإيكوسوك الإفريقي)، عن قلقه البالغ إزاء مشروع القانون الجديد الذي تُدرسه الحكومة الألمانية، والذي يهدف إلى سحب الجنسية من مزدوجي الجنسية بناءً على اتهامات بـ"التطرف" أو "معاداة السامية"، معتبراً أن هذه الخطوة تفتح الباب أمام تهديد خطير للحقوق المدنية والسياسية، وتمثل انحرافاً عن المبادئ الديمقراطية التي تتفاخر بها ألمانيا في المحافل الدولية.
وقال عقيل، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إنه في ظل الغموض القانوني المحيط بالمصطلحين الأساسيين في هذا المقترح -"التطرف" و"معاداة السامية"- تتزايد المخاوف من أن يكون القانون أداة طيّعة تُستخدم ضد فئات بعينها، لا سيما أولئك الذين يُعبّرون عن رفضهم الصريح للانتهاكات الجسيمة التي ترتكبها حكومة الاحتلال الإسرائيلي بحق المدنيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة"، هذا القانون، في حال تم إقراره، لن يكون سوى امتداد لسياسات ألمانية سابقة اتسمت بالتضييق على الأصوات المتضامنة مع الشعب الفلسطيني.
وأضاف أن "غياب التعريفات الدقيقة في القانون الجنائي الألماني لتلك المصطلحات الغامضة يفتح الباب واسعًا أمام التفسير السياسي والانحراف في تطبيق القانون، بحيث يتحول من أداة لضبط التطرف الحقيقي إلى سوط يُسلّط على رقاب المعارضين، ويُهدد حرية الرأي والتعبير التي تشكّل حجر الزاوية في أي مجتمع ديمقراطي".
وأشار إلى أن القانون المقترح قد يُستخدم لإسكات من يرفعون صوتهم ضد جرائم الحرب، ويُجرّم من يصف السياسات الإسرائيلية بأنها عنصرية أو تتبع نظام الفصل العنصري، وهي انتقادات طالما وُجهت من قبل منظمات دولية وحقوقية مرموقة، بما فيها "هيومن رايتس ووتش" و"منظمة العفو الدولية".
ويستند البرلمان الألماني، في سياق تعريفه لمعاداة السامية، إلى تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) الذي اعتمد في نوفمبر 2024، والذي يتضمن أحد عشر مثالًا، معظمها يصب في خانة الانتقاد الموجه لإسرائيل. ما يعني أن مجرد انتقاد هذه الدولة، حتى في إطار حقوقي أو أخلاقي، قد يُفسَّر كجريمة تستوجب سحب الجنسية.
تأثير يطول حق المواطنة
وأكد عقيل أن مشروع القانون لا يهدد فقط مبدأ حرية التعبير، بل يمتد تأثيره ليطول حق المواطنة نفسه، مشيرًا إلى أن نحو 5.8 مليون شخص يحملون جنسية مزدوجة في ألمانيا، وقد يجدون أنفسهم في مرمى قانون يُمكن أن يُوظَّف سياسيًا ضد مواقفهم الفكرية أو السياسية.
وأوضح أن المادة 16 من الدستور الألماني تفرض قيودًا مشددة على مسألة سحب الجنسية، مشيرة إلى أن ذلك لا يجوز إلا في حالات الانضمام لمنظمة إرهابية. ومع غياب تعريف قانوني دقيق لماهية التطرف أو معاداة السامية، فإن الباب يظل مفتوحًا أمام تفسيرات فضفاضة، قد تفضي إلى تجريد الأفراد تعسفيًا من جنسيتهم، وهو ما يُعد خرقًا صريحًا للمادة 15 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تكفل لكل إنسان حق التمتع بجنسية.
وتابع عقيل قائلاً: "إذا ما تم تمرير هذا القانون، فإن ألمانيا -التي لطالما قدّمت نفسها كمثال يُحتذى في حماية حقوق الإنسان- ستجد نفسها في موقف حرج أمام المجتمع الدولي، لا سيما أنها طرف في اتفاقيات دولية تكفل الحقوق الأساسية، ومنها الحق في المواطنة وحرية التعبير وعدم التمييز".
وأضاف أن هذه التعديلات قد تُستخدم لاستهداف مجموعات بعينها، مثل المسلمين أو المهاجرين، تحت ذرائع واهية، وهو ما يُهدد التعددية الثقافية التي شكلت أحد أبرز وجوه النهضة الاجتماعية والاقتصادية الألمانية. ويُخشى أن يؤدي ذلك إلى زعزعة الثقة بين الدولة والأقليات، وإلى تمزق في النسيج الاجتماعي الذي لطالما تميز بالتنوع والانفتاح.
واختتم نائب رئيس الإيكوسوك الإفريقي تصريحاته بالتأكيد على أن "قوانين تُسنّ على هذا النحو، وبهذا القدر من الغموض، لا يمكن أن تكون أداة عدالة، بل قد تتحول إلى أداة قمع تُصادر الحريات، وتُهدد الاستقرار المجتمعي تحت غطاء من الشرعية القانونية ونحن في الاتحاد الأفريقي ندعو السلطات الألمانية إلى مراجعة هذا المشروع بشكل شامل، بما يضمن توافقه مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، ويصون قيم العدالة والمساواة دون استثناء أو تمييز".